كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأقسطوا} أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعدما أمر به في إصلاح ذات البين، قال أهل اللغة: القسط بالفتح والسكون الجور من القسط بفتحتين وهو اعوجاج في الرجلين. وعود قاسط يابس، والقسط بالكسر العدل والهمزة في أقسط للسلب أي أزال القسط وهو الجور. وحين بين إصلاح الخلل الواقع بين الطائفتين أراد أن يبين الخلل الواقع بين اثنين بالتشاتم والسباب ونحو ذلك فقال: {إنما المؤمنون إخوة} أي حالهم لا يعدوا الأخوة الدينية إلى ما يضادّها {فأصحلوا بين أخويكم} بإيصال المظلوم إلى حقه وبدفع إثم الظلم عن الظالم. والتثنية بحسب الأغلب، ويحتمل أن يقال: إنه شامل لما دون الطائفتين. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلى قليل»
{واتقوا الله} في سائر الأبواب راجين أن يرحمكم ربكم.
ثم شرع في تأديبات آخر. والقوم الرجال خاصة لقيامهم على الأمور. قال جمهور المفسرين: إن ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنيه وقر وكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول. فجاء يومًا وقد أخذ الناس مجالسهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا. فقال له رجل: أصبت مجلسًا فاجلس. فجلس ثابت مغضبًا ثم قال للرجل: يا فلان ابن فلانه يريد أمًّا كان يعير بها في الجاهلية فسكت الرجل استحياء فنزلت. وقيل: نزلت في الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات واستهزؤا بالفقراء. وقيل: في كعب بن مالك قال لعبد الله: يا أعرابي. فقال له عبد الله: يا يهودي. وقيل: نزلت {ولا نساء من نساء} في عائشة وقد عابت أم سلمة بالقصر. ويروى أنها ربطت حقويها بثوب أبيض وأسدلت طرفها خلفها وكانت تجره فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذات تجر خلفها كأنه لسان كلب. وعن عكرمة عن ابن عباس: أن صفية بنت حييّ أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد». وتنكير القوم والنساء للبعضية أو لإفادة الشياع. وإنما لم يقل (رجل من رجل ولا امرأة من امرأة) زيادة للتوبيخ وتنبيهًا على أن السخرية قلما تصدر عن واحد ولكن ليشاركه في ذلك جمع من الحاضرين لأن ميل الطباع لى التلهي والدعابة والازدراء بالضعفاء وأهل السآمة أكثريّ. وإنما لم يقل (رجل من امرأة) وبالعكس لأن سخرية الجنس من الجنس أكثر فاقتصر على ذلك والباقي فيه بالأولى.
وقوله: {عسى أن يكونوا} كلام مستأنف ينبئ عن سبب النهي. عن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبًا. قوله سبحانه: {ولا تلمزوا} تأديب آخر واللمز الطعن باللسان. والمعنى حضوا أنفسكم بالانتهاء عن الطعن في أمثالكم من أهل هذا الدين ولا عليكم أن تعيبوا غير أهل دينكم. قيل: اللمز والسب خلف الإنسان، والهمز العيب في وجهه الإنسان. وقيل: بل الأمر بالعكس لأن من تقاليب همز هزم، وهو يدل على البعد، ومن مقلوب اللمز اللزم وهو يدل على القرب فيشمل العيب بالإشارة أيضًا. قوله: {ولا تنابزوا} تأديب آخر والنبز بالسكون القذف بالمكروه من الألقاب، واللقب من الأعلام ما دل على مدح أو ذم، والنبز بالفتح اللقب القبيح فهو أخص من اللقب كما أن اللقب أخص من العلم.
وإنما قال: {ولا تنابزوا} ولم يقل ولا تنبزوا على منوال {ولا تلمزوا} لأن النبز لا يعجز الإنسان عن جوابه غالبًا فمن ينبز غيره بالحمار كان لذلك الغير أن ينبزه بالثور مثلًا ولا كذلك اللمز فإن الملموز كثيرًا ما يغفل عن عيب اللامز فلا يحضره في الجواب شيء فيقع اللمز من جانب واحد فقط. ثم أكد النهي عن التنابز بقوله: {بئس الاسم} أي الذكر {الفسوق} وفي قوله: {بعد الإيمان} وجوه:
أحدها: استقباح الجمع بين الأمرين كما تقول: بئس الشأن الصبوة بعد الشيخوخة أي معها.
وثانيها: بئس الذكر أن يذكروا الرجل بالفسق أو باليهودية بعد إيمانه، وكانوا يقولون لمن أسلم من اليهود يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه. وثالثها أن يجعل الفاسق غير مؤمن كما يقال للمتحوّل عن التجارة إلى الفلاحة بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة فمعنى بعد الإيمان بدلًا عن الإيمان {ومن لم يتب} عما نهي عنه {فأولئك هم الظالمون} لأن الإصرار على المنهي كفر إذ جعل المنهي. كالمأمور فوضع الشيء في غير موضعه قوله: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن} فيه تأديب آخر. ومعنى اجتنبوا كونوا منه في جانب. وإنما قال: {كثيرًا} ولم يقل الظن مطلقًا لأن منه ما هو واجب كحسن الظن بالله وبالمؤمنين كما جاء في الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي» قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» وقال: «إن حسن الظن من الإيمان» ومنه ما هو محظور وهو سوء الظن بالله وبأهل الصلاح. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء» وهو الذي أمر في الآية باجتنابه. ومنه ما هو مندوب إليه وهو إذا كان المظنون به ظاهر الفسق وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «من الحزم سوء الظن» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «احترسوا من الناس بسوء الظن» ومنه المباح كالظن في المسائل الاجتهادية. قال أهل المعاني:
إنما نكر {كثيرًا} ليفيد معنى البعضية المصرح بها في قوله: {إن بعض الظن إثم} ولو عرّف لأوهم أن المنهي عنه هو الظن الموصوف بالكثرة والذي يتصف بالقلة مرخص فيه. والهمزة في الإثم عوض عن الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه. تأديب آخر {ولا تجسسوا} وقد يخص الذي بالحاء المهملة بتطلب الخبر والبحث عنه كقوله: {فتحسسوا من يوسف وأخيه} [يوسف: 87] فبالجيم تفعل من الجس، وبالحاء من الحس. قال مجاهد: معناه خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله.
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته «يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لاتتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع عورته حتى يفضحه ولو كان في جوف بيته» وهذا الأدب كالسبب لما قبله. فلما نهى عن ذلك نهى عن سببه أيضًا. تأديب آخر {ولا يغتب} يقال غابه واغتابه بمعنى، والاسم الغيبة بالكسر وهي ذكر العيب بظهر الغيب، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: «أن تذكر أخاك بما يكره فإن كنت صادقًا اغتبته وإن كانت كاذبًا فقد بهته» ثم مثل ما يناله المغتاب من عرض صاحبه على أفظع وجه فقال: {أيحب} إلى آخره. وفيه أنواع من المبالغة منها الاسفتهام للتقرير ومحبة المكروه، ومنها إسناد الفعل إلى {أحدكم} ففيه إشعار بأنه لا أحد يحب ذلك، ومنها تقييد المكروه بأكل لحم الإنسان، ومنها تقييد الإنسان بالأخ، ومنها جعل الأخ أو اللحم ميتًا ففيه مزيد تنفير للطبع. وإنما مثل بالأكل لأن العرب تقول لمن ذكر بالسوء إن الناس يأكلون فلانًا ويمضغونه، وفلان مضغة للماضغ. شبهوا إدارة ذكره في الفم بالأكل. والميت لمزيد التنفير كما قلنا، أو لأن الغائب كالميت من حيث لا يشعر بما يقال فيه. أما الفاء في قوله: {فكرهتموه} ففصيحة أو نتيجة لأنها للإلزام أي بل عافته نفوسكم فكرهتموه. أو فتحققت بوجوب الإقرار وبحكم العقل وداعي الطبع كراهتكم للأكل أو اللحم أو الميت فليتحق أيضًا أن تكرهوا لما هو نظيره وهي الغيبة. وقال ابن عباس: هي إدام كلاب الناس. وعنه «أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما فنام عن شأنه يومًا فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فعند ذلك قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة (لبئر من آبار مكة) لغار ماؤها. فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ فقالا: ما تناولنا لحمًا. فقال: إنكما قد اغتبتما فنزلت». قلت: قد تبين في الحديث أن في الآية مبالغة أخرى وهي أنه أراد باللحم الميت المدوّد المنتن المخضر، وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر الحسي عن الأمر المعنوي الذي أدركه بنور النبوّة منهما. واعلم أن الغيبة وإن كانت منهية إلا أنها مباحة في حق الفاسق. ففي الحديث «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس» وروي «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له واتقوا الله فيما نهاكم وتوبوا فيما وجد منكم».
وحين علم المؤمنين تلك الآداب الجميلة عمم الخطاب منعًا من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق فقال: {يا أيها الناس} الآية.
قال بعض الرواة: إن ثابت بن قيس حين قال: «فلان ابن فلانة» قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من الذاكر فلانة؟ فقام ثابت فقال: أنا يا رسول الله. فقال: انظر في وجوه القوم فنظر فقال: ما رأيت يا ثابت؟ قال: رأيت أبيض وأسود وأحمر. قال: فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى والدين»، فأنزل الله هذه الآية. وعن مقاتل: لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا حتى أذن على ظهر الكعبة فقال عتاب بن أسيد: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحرث بن هشام: أما وجه محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناَ. وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئًا يغيره. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئًا أخاف أن يخبر به رب السماء. فأتى جبريل عليه السلام فأخبره. وأقول: الآية تزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي في سوق المدينة غلامًا أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف النبي صلى الله عليه وسلم: فاشتراه رجل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عند كل صلاة ففقده يومًا فسأل عنه صاحبه فقال: محموم. فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقيل: هو في ذمائه. فجاءه وتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت. وقوله: {من ذكر وأنثى} فيه وجهان: أحدهما من آدم وحوّاء فيدل على أنه لا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة، والثاني كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين كالذباب والذئاب مثلًا، لكن التفاوت بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين، لأن الكافر كالأنعام بل أضل، والمؤمن هو الناس وغيره كالنسناس. والحاصل أن الشيء إما أن يترجح على غيره بأمر يلحقه ويترتب عليه بعد وجوده، وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله. وهذا القسم إما أن يرجع إلى القابل أو إلى الفاعل كما يقال كان هذا من النحاس وهذا من الفضة وهذا عمل فلان فذكر الله سبحانه أنه لا ترجح بحسب الأصل القابل لأنكم كلكم من ذكر وأنثى، ولا بحسب الفاعل فإن الله هو خالقكم. فإن كان تفاوت فبأمور لاحقة وأحقها بالتمييز هو التقوى لما قلنا، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينًا عالمًا، ولا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينًا عالمًا، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإن كان قرشي النسب قارونيّ النشب. ثم بين الحكمة التي من أجلها رتبهم على شعوب وقبائل وهي أن يعرف بعضهم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه فقال: {وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا} أي ليقع بينكم التعارف بسبب ذلك لا أن تتفاخروا بالأنساب.
وقيل: الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب. وقال جار الله: الشعب بالفتح الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب. أوّلها شعب وهي أعم سمي بذلك لأن القبيلة تنشعب منها، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة وهي الأخص مثال ذلك: خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة.
فائدة: لا ريب أن الخلق يستعمل في الأصول أكثر، والجعل يستعمل فيما يتفرع عليه، ولهذا قال: {خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} [الأنعام: 1] وقال في الآية: {خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل} ولكنه قال في موضع آخر {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] فبين أن الأصل في الخلق والغرض الأقدم هو العبادة ليعلم منه أن اعتبار النسب وغيره مؤخر عن اعتبار العبادة فلهذا قال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وفيه معنيان: أحدهما أن التقوى تفيد الإكرام عند الله. والثاني أن الإكرام في حكم الله يورث التقوى والأول أشهر كما يقال ألذ الأطعمة أحلاها أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة. عن النبي صلى الله عيله وسلم أنه طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها؛ يا أيها الناس إنما الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم قرأ الآية» وعنه صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» قال ابن عباس: كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى.
{إن الله عليم} بظواهركم {خبير} ببواطنكم وحق مثله أن يخشى ويتقى. وحين حث عموم الناس على تقواه وبخ من في إيمانه ضعف. قال ابن عباس: إن نفرًا من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر، وأفسدوا طريق المدينة بالقذاة، وأغلوا أسعارها وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله هذه الآيات. أي قالوا آمنا بشرائطه فأطلع الله نبيه على مكنون ضمائرهم وقال: لن تؤمنوا إيمانًا حقيقيًا وهو الذي وافق القلب فيه اللسان.
{ولكن قولوا أسلمنا} يعني إسلامًا لغويًا وهو الخضوع والانقياد خوفًا من القتل ودخولًا في زمرة أهل الإيمان والسلم. ثم أكد النفي المذكور بقوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} وفيه فائدة زائدة هي أن يعلم أن الإيمان متوقع منهم لأن (لما) حرف فيه توقع وانتظار.
ثم حثهم على الطاعة بقوله: {وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم} أي لا ينقصكم {من} ثواب {أعمالكم شيئًا} يعني الثواب المضاعف الموعود في نحو قوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] ألت يألت بالهمز إذا نقص وهي لغة غطفان. يقال ألته السلطان حقه أشدّ الألت. ولغة أسد وأهل الحجاز لأته ليتًا. وقال قطرب: ولته يلته بمعنى صرفه عن وجهه. فيكون {يلتكم} على وزن (يعدكم)، وعلى الوجه المتقدم على وزن (يبعكم).
{إن الله غفور رحيم} لمن تاب وأخلص نيته. ثم وصف المؤمنين المحقين بقوله: {إنما المؤمنون} ومعنى {ثم} في قوله: {ثم لم يرتابوا} كما في قوله: {ربنا الله ثم استقاموا} [فصلت: 30] وارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة أي ثم لم يقع في قلوبهم شك فيما آمنوا به ولا إتهام لمن صدّقوه وذلك بتشكيك بعض شياطين الجن والإنس. وقال جار الله: وجه آخر لما كان زوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهًا على مزيته وإشعارًا بأنهم مستقرون على ذلك في الأزمنة المتطاولة غضًا جديدًا. وفي قوله: {أولئك هم الصادقون} تعريض بأن المذكورين أولًا كاذبون ولهذا قال: {قل لم تؤمنوا} إشارة إلى كذبهم في دعواهم ورب تعريض لا يقاومه التصريح. ثم أراد تجهيلهم بقوله: {قل أتعلمون الله بدينكم} والباء قيل للسببية والأظهر أنه الذي في قولهم ما علمت بقدومك أي ما شعرت ولا أحطت به. وذكر في أسباب النزول أنه لما نزلت الآية الأولى جاءت هؤلاء الأعراب وحلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية. والاستفهام للتوبيخ أي كيف تعلمونه بعقيدتكم وهو عالم بكل خافية والتعليم إفادة العلم على التدريج والمعالجة؟ وقيل: تعريض من لا يعلم بإفهام المعنى لأن يعلم قوله: {يمنون عليك} نزلت في المذكورين وفي أمثالهم. يقال: منّ عليه صنعه إذا اعتدّه عليه منة وإنعامًا. قال أهل العربية: اشتقاق المنة من المن الذي هو القطع لأنه إنما يسدي النعمة إليه ليقطع بها حاجته لا غير من غير أن يعمل لطلب مثوبة وعوض. ثم قال: {بل الله يمن عليكم} حيث هداكم للإيمان الذي ادّعيتموه. وفي إضافة الإسلام إليهم ازدراء بإسلامهم، وفي إيراد الإيمان مطلقًا غير مضاف إشارة إلى الإيمان المعهود الذي يجب أن يكون المكلف عليه. وجواب الشرط محذوف أي {إن كنتم صادقين} في ادعاء الإيمان الحقيقي فلله المنة عليكم. ثم عرض بأنهم غير صادقين فقال: {إن الله يعلم} الآية والمراد أنه لا يخفي عليه ضمائرهم والله أعلم بالصواب. اهـ.